لجنة الدفاع عن الحق فى الصحة ترفض قانون خصخصة التأمين الصحى فى ردائه الجديد
لجنة الدفاع عن الحق فى الصحة ترفض
قانون خصخصة التأمين الصحى فى ردائه الجديد
بعد
سبع سنوات من المناقشة المجتمعية الحامية حول مشروع قانون التأمين الصحى
الجديد تقدم الحكومة آخر مسودة لها لمشروع القانون المعروفة بمسودة 16
أكتوبر 2012. وقد حاولت الحكومة جاهدة عبر مختلف مسودات القانون طوال تلك
السنوات تمرير تحويل التأمين الصحى الاجتماعى الحالى –بكل عيوبه- إلى تأمين
صحى تجارى، مع خصخصة الجهة المقدمة للخدمة بتحويلها إلى جهة ربحية على
غرار الشركة القابضة، ولكنها لم تتمكن من ذلك بفضل تصدى كل القوى الوطنية
المؤمنة بحق الشعب المصرى فى الصحة.
وقبل
تفحص ما يأتى به القانون الجديد يهمنا أن نعرف أركان أى قانون للتأمين
الصحى، حيث إن مشاكل القانون لا تتوقف فقط على ما يصرح به، بل وأحيانا ما
يصمت عنه رغم إشارات قوية تفضح هويته. فالقانون ما هو إلا علاقة بين طرفين
تحدد الحقوق والواجبات. ويتم تقيين أى قانون للتأمين الصحى على ثلاثة
محاور:
1. حقوق المواطن المنتفع بالتأمين الصحى، أو ما يعرف بحزمة الخدمات أو الأمراض التى يعالج منها منتفع التأمين الصحى
2. واجبات المواطن أو التزاماته من اشتراك و/ أو آية أعباء أخرى من رسوم ومساهمات نظير تلقى الخدمة
3. وضع هيئة التأمين الصحى الحالية التى تقدم الخدمة العلاجية سواء باستمرارها كهيئة غير ربحية أو فتح الباب –صريحا أو مواربا- لتحويلها إلى هيئة ربحية.
والنقطة
الوحيدة الواضحة وضوحا كاملا هى واجبات المواطن والتزاماته. والتزامات
المواطنين لا تقتصر على اشتراك التأمين الصحى، الذى لم تتم زيادته وبقى 1%
من المرتب يدفعه العامل و3% يدفعها رب العمل (دون ذكر للنسبة التى كان
يدفعها رب العمل وحده كتأمين لإصابات العمل، وتتراوح بين 1-3%). ولكن زاد
عليها رسوم ثابتة (كشف ممارس وإخصائى واستشارى 3، و5، و10 جنيهات، وخمسة جنيهات عن كل صنف من الدواء). كما زاد عليها مساهمات
تساوى نسبة من التكلفة تبلغ 10% من التحاليل و20% من الأشعات والفحوص
التصويرية، وكل هذا بدون حد أقصى. فيصبح المواطن الذى يحتاج إلى أشعة
مقطعية أو رنين مغنطيسى مضطرا إلى دفع بين 150-200 جنية (20% من القيمة)
وإلا لن يحصل عليها. ويصبح إجمالى ما يدفعه أى مواطن على المعاش ومصاب
بالضغط والسكر وأى مرض آخر مائة جنية شهريا على الأقل فى نظير بضعة أدوية
بالإضافة إلى رسوم الكشف والأدوية والنسب فى التحاليل
والأشعات. ولما كان متوسط المعاش لا يتجاوز بضع مئات من الجنيهات لأغلب
المواطنين يصبح هذا النوع من التأمين الصحى مولِّدا للفقر. وبهذا يتم تدمير
فلسفة التأمين الصحى الأساسية التى تجعل من دفع الاشتراك وسيلة لحماية المريض من دفع مبالغ لا تتحملها ميزانيته عند الإصابة بالمرض.
ولقد عرضنا استعداد المواطنين لزيادة اشتراك التأمين الصحى (من 1% إلى 2%
مثلا) فى مقابل خدمة جيدة، وفى المقابل زيادة اشتراك رب العمل بنفس النسبة
(من 3% إلى 6%) كبديل لتوفير الموارد بدون وضع المريض فى موقف الاستغناء عن
دخل ضرورى أو الاستغناء عن أقسام من العلاج، لكن لا من مجيب!
أما
التأمين الصحى على طلبة المدارس فيشهد كارثة: فبدلا من الوضع الحالى حيث
اشتراك تأمين صحى سنوى يدفعه ولى الأمر مقداره 4 جنيهات وتدفع الدولة 12
جنيها ويتم تكملة التكلفة من الرسوم على السجائر، يأتى النظام الجديد فيلغى
مساهمة الدولة، ويرفع اشتراك كل طفل إلى 0.5% من مرتب الأب بحد أدنى خمسة
جنيهات شهريا تدفع مرة واحدة (ستون جنيها سنويا!) مع المصروفات المدرسية.
أى أن أى ولى أمرلديه أربعة أطفال يحتاج إلى مصروفات مدرسية شاملة التأمين
الصحى ما يزيد عن 400 جنيها كل عام، ولنا أن نتصور كيف سترتفع نسبة التسرب
من المدارس فى حالة إقرار مثل ذلك القانون! ففى بلد ترتفع فيه نسبة الأمية
إلى معدلات من أعلى معدلات العالم وترتفع فيه الدعوات إلى تقديم وجبة ساخنة
بالمدارس للتشجيع على تلقى التعليم يأتى التأمين الصحى طاردا لطلبة
المدارس من رحمته! وتعد سنين النشئ الأولى هى أهم السنوات المحدده للحالة
الصحية للشاب والرجل بما يوجب على الدولة تحمل مسئوليتها إن كان للدولة أن
تتحمل أى مسئولية اجتماعية، ولكن قصر النظر المذهل لواضعى القانون لا يعترف
بالمسئولية الاجتماعية للدولة لاهتمامه فقط بالتوازن المالى للهيئة!
أما أغرب ما جاء فى القانون فهو أن كل تلك الرسوم التى يدفعها المريض تزيد سنويا بنسبة التضخم المعلنة من الجهات الرسمية! والأصل بالطبع هو أن ترتبط المرتبات بالأسعار فتزيد المرتبات سنويا بنسبة التضخم المعلنة، ولكن أن تظل حقوق المواطن التى يتلقاها من الدولة فى صورة مرتبات ثابتة
بينما يزيد ما يدفعه بنسبة التضخم فلا شك أننا أمام إبداع هو الأول من
نوعه! وهو إبداع يجد سببه فى أن لجنة وضع القانون لا تعتبر نفسها جزءاً من
الدولة وممثلة لها فتربط بين حقوق المواطن وواجباته وفق ميزان واحد، ويتضح
هذا من لهجة أعضاء اللجنة فى الدفاع عن القانون فى الإعلام حينما يبررون
زيادة أعباء المواطن يقولون أن وزارة المالية رفضت تحمل المزيد باعتبارها
دولة أخرى لا يتحملون مسئولية قراراتها! فهم لم يسمعوا عن المسئولية
التضامنية للوزراء، وهمهم الرئيسى تدبير موازنة للهيئة بصرف النظر عن أن
القانون يعبر عن موقف الدولة من حقوق المواطنين.
أما حقوق المواطنين أو حزم الأمراض
التى سوف يعالجون منها فى ظل القانون الجديد فيشوبها الغموض المقصود:
فالمسودات المتعاقبة كانت تُنتَقَد لأنها لا تنص على نوعية الأمراض على وجه
الحصر التى سوف تعالج، وإن نصت على مبدأ تعدد الحزم العلاجية بما يعنى أنه
ليس كل المواطنين سوف يعالجون من جميع الأمراض. وبعد النقد اللاذع الذى
وجهته القوى الوطنية لمسودات القانون المتعاقبة تأتى تلك المسودة (وبعض
المسودات الأخيرة) فتلغى حزمة الكوارث، ولكنها لا تنص حصرا على الأمراض
التى تعالج مثل القانون الحالى منذ 1964. فالقانون السارى حاليا يحقق
المساواة الدستورية بين المواطنين جميعا فى العلاج من جميع
الأمراض. ويقول واضعو مسودة القانون الجديد شفويا أن الحد الأدنى للحزم
العلاجية هو ما يقدم حاليا فى التأمين الصحى، ولكن تلك تعهدات غير مثبته فى
نص مسودة القانون. ليس هذا فحسب، بل إن من المسكوت عنه تماما الخدمات التى
سوف يحصل عليها الداخلون الجدد فى التأمين الصحى. كان المصرح به فى
المسودات السابقة وشرحها أن الخدمات المقدمة إليهم سوف تقتصر على حزمة
الانتفاع الأساسية وهى أساسا رعاية صحية أولية فقط. وتأتى مذكرة الأسئلة
والأجوبة المرفقة بالمسودة الحالية لكى تنص على أن تطبيق القانون الجديد
على كامل الجمهورية سوف يكون بحزم خدمات متصاعدة تدريجيا. وهذا يمثل كارثة
مزدوجة: حيث لم يتم أولا النص فى جسم القانون على حقوق المواطن والأمراض
التى سيعالج منها وثانيا تتضح عدم المساواة الدستورية بين المواطنين الذين
لا يحصلون فى النهاية إلا على رعاية صحية محدودة. ونذكِّر هنا أن حكم محكمة
القضاء الإدارى فى الشق المستعجل من قضية الشركة القابضة للرعاية الصحية
قد رفض صراحة إنشاء نظامين للتأمين الصحى أحدهما محدود المزايا للفقراء
والآخر وافر المزايا للأغنياء! وهذا هو مايفعله صراحة القانون الجديد فى
التفرقة بين المؤمن عليهم حاليا والداخلين الجدد تحت مظلة التأمين الصحى.
والركن الثالث والأخير من أركان القانون هو الخاص بطبيعة الهيئة المقدمة للخدمات العلاجية:
فالهيئة الحالية هيئة غير ربحية. والحكومة تمهد لتحويلها إلى هيئة ربحية
كما فعلت صراحة فى قرار إنشاء الشركة القابضة التى سلبت التأمين الصحى
مستشفياته وعياداته وأصوله وملكتها للشركة القابضة، وهو ما تم وقفه بسبب
المعارضة الهائلة من المجتمع المدنى وأيده حكم القضاء المشار إليه. ولكن
الحكومة استمرت فى السعى لتمرير تحويل جهاز تقديم الخدمة إلى هيئة تجارية
بمختلف أشكال التنكر، وأولها الصمت عن أن تصرح فى صلب القانون بطبيعة
الهيئة المقدمة للخدمة. ثم تأتى الدلائل غير المباشرة على أن تلك الهيئة
ستكون هيئة اقتصادية ربحية: فإن النص على إعفاء تلك الهيئة
من إشراف هيئة الرقابة على التأمين (وهى هيئة تابعة لوزارة المالية تشرف
على مختلف شركات التأمين التجارى) تشير إلى أن الهيئة الجديدة تقع فى نطاق
إشرافها، أى هيئة ربحية بالتحديد. كما ينص القانون على تقديم الخدمة من
القطاع الحكومى والأهلى والخاص على قدم المساواة، وهى عبارة شهيرة للبنك الدولى وصندوق النقد الدولى يتلخص مضمونها فى أن تكون كلها هيئات ربحية حتى لا تعطى ميزة تنافسية غير مطلوبة للقطاع الحكومى الذى سيقدم خدمة أرخص لأنها غير محملة بالربح.
وفى
الواقع فإن مجمل القانون بكل مساوئه يقع فى نطاق الالتزام بتوصيات البنك
الدولى وبرنامج الإصلاح الصحى الموقع معه فى عام 1998، حيث يكفى استعراض
بعض نصوص توصيات البنك الدولى لإصلاح القطاع الصحى فى مصر للتأكيد على ذلك:
· "جدول
بيع أو نقل وحدات تقديم الخدمة الحالية (المستشفيات، الوحدات المجمعة،
العيادات) إلى القطاع الخاص أو إلى منظمات القطاع العام الاقتصادية (وحدات
بأجر)"
· "قلل نسبة التكاليف الدوائية"
· "لا وظائف مضمونة، أنقص عدد الأفراد الحالي"
وهكذا يتضح التناقض الجذرى بين الخطة الحكومية التى تدعمها مؤسسات التمويل الدولية لخصخصة التأمين الصحى وتحويله إلى تأمين صحى تجارى مع خصخصة جهة تقديم الخدمة من خلال تلك المسودة للقانون وبين وجهة نظر الخبراء الوطنيين فى إنشاء
تأمين صحى اجتماعى شامل يشمل جميع المصريين ويساوى بينهم جميعا فى العلاج
من كافة الأمراض، وتقوم على تقديمه أساسا هيئات غير ربحية.
إن قانون التأمين الصحى الاجتماعى هو جزء من منظومة قوانين الحماية الاجتماعية،
وبالتالى فإخوته هم قوانين التأمين ضد العجز والشيخوخة والوفاة والبطالة
وإصابات العمل، وهى منظومة متكاملة إذا كنا نتحدث من منظور اجتماعى، أما
حينما نتحدث من وجهة نظر تجارية ونسعى لتحويل التأمين الصحى الاجتماعى إلى
تأمين صحى تجارى، فنصر على وضع فصل التمويل عن الخدمة كأساس للقانون بينما
نصمت حول حقوق المواطن فى معرفة الأمراض التى سوف يعالج منها ونصمت حول
الطبيعة غير الربحية لمؤسسة تقديم الخدمة، ونجعل هدف تلك المنظومة الأساسى
هو الربح وليس تقديم الخدمة. إننا ندمر شبكات الحماية الاجتماعية ونقلل فى
الأمراض التى تعالج ونزيد أعباء المريض بينما نقلل أعباء كل من الدولة
وأصحاب الأعمال!
ويجب
أن نذكر أيضا أن مشاكل التمويل فى التأمين الصحى الحالى ترتبط ارتباطا
وثيقا، باعتبار الاشتراك نسبة من المرتب، بضآلة المرتبات الحكومية وهزال
المرتبات التى يتم التأمين عليها فى معظم القطاع الخاص. إن إقرار حق
المواطن فى حد أدنى معقول للأجور يفيد ضمن ما يفيد فى تطوير موارد التأمين
الصحى.
إن
الحكومة التى ترفض بعد ما يقرب من عامين من الثورة أن تقر حدا أدنى للأجور
ومستوى معقولا من الخدمات الاجتماعية فى التعليم والصحة مازالت تواصل
مسيرة النظام القديم فى تنفيذ مخططات مؤسسات التمويل الدولية فى تقليص
الإنفاق الحكومى برفض زيادة الأجور (ورفض إعادة التوزيع العادل لبند الأجور
بوضع حد أقصى حقيقى) ورفض زيادة موازنة الصحة والتعليم والسير فى طريق
خصخصة الصحة والعلاج على حساب حق المواطنين فى الصحة والعدالة الاجتماعية.
ولكن مقاومة الشعب المصرى لخصخصة الصحة والتى نجحت فى وقف الخصخصة أثناء
فترة مبارك سوف تصر وتنجح فى وقفها بعد الثورة!
0 Comments:
Post a Comment
<< Home