Wednesday, June 29, 2011

امريكا ضد الحد الادنى لاجور

امريكا ضد الحد الأدنى للأجر

بقلم: وائل جمال


على مدى سنوات، دعمت الولايات المتحدة أولوية القطاع الخاص وعملت عن قرب مع نخبة الأعمال دفاعا عن أجندة مشتركة تبدأ ولا تنتهى بالتجارة الحرة وخصخصة الشركات والمصانع والمؤسسات الاقتصادية المملوكة للدولة.

«إن الحكومة الأمريكية تعمل مع الحكومة والشركاء الدوليين من أجل المساعدة على خلق الوظائف، ومساندة النمو الاقتصادى، ودفع الاستثمار الأجنبى المباشر الذى يتوافق مع معايير منظمة العمل الدولية الخاصة بالعمال فى الصناعة والموجه للزراعة وغيرها»، هكذا ردت وزارة الخارجية الأمريكية على مجلة «ذى نيشن»، التى نشرت قبل أيام ملخصات ل 1918 وثيقة تعود لدبلوماسييها فى جزيرة هايتى الواقعة فى الكاريبى بالتعاون مع موقع ويكليكس وجريدة هايتى الحرة. تكشف هذه البرقيات المسربة عن تنسيق أمريكى واسع مع بعض رجال الأعمال والمستثمرين الصناعيين من أجل مواجهة الضغوط الشعبية الواسعة لرفع الحد الأدنى للأجر.

حكاية هايتى مع الديمقراطية والعدالة الاجتماعية

على مدى ربع قرن، شكلت حركة شعبية واسعة من أجل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية الحياة السياسية فى هايتى، التى تمتلك تاريخا مظفرا بحرب استقلال بطولية ونضال ناجح ضد العبودية فى القرن الثامن عشر. فى فبراير 1986 أسقطت انتفاضة جماهيرية ديكتاتورية 29 عاما من حكم جون كلود دوفالييه وأسرته، اضطر بعدها للهرب خارج البلاد، لكن النخبة الغنية المستفيدة ظلت دون أن تُمَس مما مكنها من خوض مواجهة عنيفة، بدعم أمريكى وبتنسيق مع الجيش، ضد التغيير لتحقيق العدالة الاجتماعية والسياسية.

استخدم هذا التحالف كل خدعة متاحة بداية بفرق الموت إلى إثارة الفوضى. وأفسد محاولة لعقد الانتخابات فى 1987 ثم عقد هو انتخابات وهمية قاطعها الجميع بعدها بعام. حتى تمكنت الحركة الجماهيرية فى 1990 من عقد انتخابات ديمقراطية جاءت بالقس الكاثوليكى التحررى جون برتراند أريستيد للحكم بأغلبية 67% على حساب مارك بازين، وهو مسئول سابق بالبنك الدولى، نال تأييد واشنطن.

استأنفت نخبة الثروة حكم الشعب بالتحريض على انقلاب عسكرى فى سبتمبر 1991 شارك فيه الجيش مع الشرطة. وتم نفى الرئيس المنتخب وتأسيس حكم بالحديد والنار دام 3 سنوات. لكن المقاومة الشعبية استمرت بالإضرابات والمظاهرات والاعتصامات. وصارت هايتى غير قابلة للحكم خاصة بعد أن فاض اللاجئون على سواحل أمريكا مهددين بالتسرب إليها. فراهن الرئيس كلينتون وقتها على إعادة أريستيد كواجهة للاستمرار فى السياسات الاقتصادية النيوليبرالية بينما تدخلت الأمم المتحدة بقواتها لضمان الأمن فى البلاد (شارك فى العملية 22 ألف جندى أمريكي).

لكن أريستيد المدعوم بحركة الناس لم يستكن، ورفض ضغوط الخصخصة ودافع عن سياسات اقتصادية تستهدف إعادة توزيع ثروة البلاد لصالح الفقراء.

سيطر حزب أريستيد على البرلمان بتصويت الناس ليبدأ تنفيذ برنامج للاستثمار فى البشر دشن عددا كبيرا من المشروعات تستهدف نوعا من العدالة الاجتماعية.

قاد هذا الوضع إلى إنقلاب عسكرى جديد قامت به القوات الأمريكية هذه المرة وطردت أريستيد وزوجته إلى المنفى فى أفريقيا.

بينما احتلت قوات فرنسية وكندية وأمريكية مواقع استراتيجية بطول وعرض البلاد. تم تنصيب عدد من الحكومات الضعيفة فاقدة الشرعية الموالية لأجندة تحرير الأسواق إلى أن أقيمت انتخابات جديدة جاءت برينيه بريفال، الذى كان رئيس وزراء لأريستيد، على خلفية استمرار الحركة الاجتماعية الشعبية التى لا تيأس. غير أن البلاد صارت عرضة لسلسلة من الكوارث الطبيعية دمرت مدنها.

3 دولارات تكفي

فى يونيو 2009 مرر البرلمان فى هايتى قانونا بالاجماع يقضى بأن يكون الحد الأدنى للأجر 5 دولارات يوميا، وذلك تحت ضغط انتفاضة شعبية جديدة سميت باحتجاجات جوع كلوروكس بسبب ما يسببه الجوع من ألم فى المعدة شبيه بأثر مبيض الملابس الشهير. لكن أصحاب مصانع الملابس الجاهزة التى تصدر للولايات المتحدة رفضوا القانون وقالوا إنهم لن يدفعوا سوى 3 دولارات فقط، وأيدتهم فى ذلك وكالة المعونة الأمريكية والسفارة.

وبعدها بشهرين، وصل بريفال لاتفاق يستثنى صناعة المنسوجات، التى تصدر لأمريكا باتفاق شبيه بالكويز من حيث المزايا الضريبية والجمركية من دفع ال5 دولارات يوميا على أن يدفع مستثمرو الملابس الجاهزة 3 دولارات فقط. وتقول دراسة تمت بالتنسيق مع برنامج الغذاء العالمى إن ثلث سكان هايتى يعانون من عدم الأمن الغذائى بينما تشير دراسة أخرى إلى أن حد الكفاف لأسرة من 3 بعائل وحيد هو مالا يقل عن 12.5 دولار فى اليوم. لكن الوضع لم يعجب الأمريكيين، الذين تكشف وثائق ويكيليكس، التى نشرتها «ذى نيشين» نسقوا بشكل مستمر مع جزء من نخبة الأعمال لاسقاط القانون. وتظهر البرقيات أن السفارة الأمريكية كانت واعية تماما بشعبية القرار وبأن بعض رجال الأعمال كانوا يؤيدونه.

لكنها وقفت بشدة مع تلك المجموعة التى سيطرت على المناطق الاقتصادية التى ُسميت «التجميع صفر»، والتى لطالما أيدتها واشنطن عبر صفقات تحرير تجارى ودعم مالى. بل إن برقيات ويكيليكس تؤكد أن الولايات المتحدة سمحت لرجال الأعمال بتسليح غير رسمى لقوات الشرطة المحلية مما حولها إلى «جيش خاص يعمل لصالحها».

وبينما راقبت واشنطن المظاهرات المؤيدة للحد الأدنى للأجر، تقول البرقيات المسربة إن القلق الوحيد كان سياسيا من توسعها وامتدادها للإطاحة بالتوازن الهش الموجود.

بينما تم استخدام قوات الأمم المتحدة مرة أخرى لقمع مظاهرات طلابية تطالب بإنهاء الوجود العسكرى الأجنبى.

«فى كل مرة كانت قضية الحد الأدنى للأجر تطرح أو تناقش كانت نخبة الأعمال المدعومة بدراسات وكالة المعونة الأمريكية تقفز محذرة الحكومة :الذئب الذئب ــ رفع الحد الأدنى سيعنى إغلاق المصانع حتما وزيادة عدد العاطلين. وفى كل مرة كان ذلك كذبا»، كما يقول منبر هايتى لبدائل التنمية فى بيان صحفى فى يونيو 2009.

تحول منظم ومقَيَّد

يستخدم أدم هنية، الباحث والأستاذ بكلية الدراسات الشرقية والأفريقية بجامعة لندن، ذلك التعبير الذى استخدمته وزير الخارجية الأمريكية هيلارى كلينتون، فى بدايات الثورة المصرية للتأكيد على نقل منظم للسلطة Orderly Transition من مبارك لعمر سليمان، لوصف الاستراتيجية التى تجمع بين مؤسسات الاقتصاد العالمى وبعض نخب الأعمال المصرية. فمثلا تقوم حزم المساعدات التى عرضتها مجموعة الثمانية وصندوق النقد والبنك الدوليان، على نفس القواعد القديمة. حقيقى أنها تقر بضرورة خلق الوظائف والاستثمار فى البنية الأساسية بل والتعامل مع قضية الفقر، لكنها فى الوقت نفسه تشترط «الاستقرار المالي» مؤكدة على قاعدة تحجيم الانفاق الاجتماعى لعدم مفاقمة عجز الموازنة (قاعدة ذهبية فى وصفة تحرير الأسواق لا يتم التغاضى عنها إلا فى حالة الانفاق لدعم الشركات الكبرى).

ورغم أن الاقتراض من هذه المؤسسات صار محل مراجعة فى الأيام الأخيرة، لكن هاهى موازنتنا الجديدة تفقد فى أيام 27 مليار جنيه لأجل عيون العجز وبعد ضغوط من عالم المال والأعمال. وهاهو التصريح وراء التصريح بأنه لا تراجع عن سياسات السوق الحرة، من مسئولى حكومة لا تتمتع بشرعية التمثيل الانتخابى لأغلبية من المصريين أدلت برأيها فى النظام الاقتصادى عبر ثورة.

وكما قال أهل بلدنا بوضوح، لا تشوبه شائبة، كلمتهم فى النقل المنظم للسلطة على مستوى السياسة فقد حان موعد الثورة مع عالم الاقتصاد. إذ أن ذلك «التحول المنظم المقيد»، الذى يبقى الميزان المعيوب مائلا لحساب القلة، لا يستقيم مع طموحاتنا لحرية غير منتقصة فى رأينا وفى رزقنا. ولنا فى هايتى الدرس والعبرة.